الفصل الأول
حاولت جاهدة أن تسحب وعيها من هذا المحيط الأسود الذى يغلفها لتفشل للمرة التى لا تعلم عددها، ترى من خلف أجفانها المنسدلة هيئته وتسمع حفيف ملابسه التى يرتديها ، تعلم ما الخطوة المقبلة ورغم ذلك لا يتوقف قلبها عن الارتجاف حتى اقترب منها هامسا
_ لازم اخد حقى منك ومحدش هيقدر ينجدك منى، انتقامى منك لسه طويل.
لم تتمكن من التعرف على صوته ربما لأنه يهمس بفحيح صوته ليزيد من بث الرعب بين ضلوعها.
وربما لأنها لا تعرفه فعلياً.
وربما لأنه مجرد كابوس كما يخبرها الجميع.
هلاوس تأتيها ليلا تعذبها وتذوب مع اقتراب الشمس.
تشعر بالراحة فقط لمغادرته بعد قضاء هذا الوقت تحت سطوة الخوف وأسفل بدنه الذى يعذبها لذنب كما يدعى كل ليلة رغم أنها لا تعرفه .
فتح باب الغرفة لتنتفض مع شهقة قوية وكأن أنفاسها كانت أسيرة لهذا الصدر ساعات نومها المنصرمة لتقترب منها المربية بفزع لكنها تنتفض عن الفراش تنفض اغطيته وتفحصها بجنون صارخة
_ كان هنا، كان هنا يا دادة انا متأكدة
_ أهدى بس يا بنتى هو مين اللى كان هنا؟
ضربت جانبى رأسها ولم تتوقف عن الصراخ
_ مااعرفش هو مين، بيجى كتير ومحدش منكم مصدقنى
_ لا حول ولا قوة إلا بالله
اقتربت المربية منها تحاول ضمها إلى صدرها لتبدأ نارا محاولة دفعها بعيدا لكن رد فعلها مقبول من وجهة نظر مربيتها العطوف التى تشفق على حالها كثيراً منذ وفاة زوجها وعودتها لمنزل أبيها كسيرة القلب خاصة أنها خلال زواج دام لخمس سنوات لم ترزق بذرية تشد من عضدها فى كارثة كفقد زوجها بهذه الطريقة البشعة المؤسفة .
بدأت نارا تستسلم لمحاولات عواطف لضمها فهى بالفعل بحاجة لمن يحتويها ويحتوى تخبطها وما تعانيه فهى منذ وفاة زوجها تتعرض لهذا الاعتداء المتكرر ولا أحد يصدق ما تصرخ به طالبة النجاة منه.
احتوتها عواطف بالكامل لتترك للبكاء سبيل عينيها فيسكنها
_ انا تعبت يا دادة، انا مش عاوزة احس الاحساس ده تانى
_ يا بنتى مين بس اللى يقدر يدخل اوضتك ويلمسك والحرس على بابك طول الليل ده غير اللى فى الجنينة تحت ؟
_ مااعرفش بس فى حد بيدخل اوضتى انا بحس بيه
_ ليه مابتصرخيش لما تحسى بيه؟
_ مااعرفش بكون متكتفة، الخوف بيكتفنى ببقى زى اللى بحلم ومش قادرة اخرج من الحلم، حاسة بس مشلولة، سامعة بس صوتى مكتوم، بصرخ جوايا ومحدش حاسس بيا.
تعلم عواطف القصة التى سترويها لها نارا فهى ترويها منذ عام كامل وقد حفظت كل التفاصيل لكنها تمنحها الفرصة لتفريغ تلك الشحنة فى كل مرة محبة لها وإشفاق على ما وصلت إليه هذه الفتاة التى لم تر من الحياة سوى الأسوأ.
………….
جلس أدهم الزناتى مترأسا طاولة الطعام كالعادة وجلس على يمينه ابنه الوحيد سياف المعتد بنفسه لدرجة الغرور يتناول طعامه أو يلتهمه فلا أحد يمكنه التعليق على الطريقة التى ينتهجها سياف مادام بعيدا عن متناول المتلصصين ووالده لا يهتم للطريقة التي يتناول بها طعامه مادام يفرغ بعضا من شحناته الحيوانية أثناء تناوله، تلك الشحنات التى عمل على تنميتها منذ طفولته ليصبح ابنه ما هو عليه حالياً وسعيد تماماً بما وصل إليه من كينونة ترتعد لها قلوب أعداءه.
تقدمت نارا من مجلسهم بخطى منهكة لتجلس بنفس الصمت الذى أصبح جزء منها منذ عادت للحياة بمنزل أبيها مكرهة لينظر لها وتحمل عينيه الصارمة لمحة من حنو غير معتاد .
_ مالك يا نارا ؟ انت مش عجبانى خالص
_ انا fine داد
_ انت لسه بتشوفى كوابيس؟
اتجهت عينيها لتواجه نظرات أبيها قبل أن تمسح وجهها معلنة المزيد من الإرهاق لتعلو ضحكات سياف التى تعبر عن عدم اتزانه قبل أن يقول
_ ده الحرمان يا نارا
إلتقى حاجبيها تستنكر ما يتفوه به من حماقة وهى تزفر بضيق فما لها من طاقة لجدال جنون عقله واختلال نفسه ليتدخل أدهم منهيا الحوار
_ سياف!!
اتسعت عينا سياف وكأنه يرفض أن يتخذ والده جانب شقيقته
_ انا بقول الحقيقة واحدة جوزها مات وبتحلم بحد نايم معاها يبقى عاوزة تتجوز، جوزها وهتبقا كويسة المهم نخلص من الموال ده انا زهقت من منظرها وكآبة وشها كل يوم
انتفضت نارا تغادر الطاولة والمكان كله بينما نظرات سياف تطاردها كجمرات من نار ، انتظر ادهم حتى اختفت تماما ليواجه ابنه بحدة
_ سياف سيب اختك فى حالها انت اصلا السبب في اللى هى فيه لولا قتلت قاهر ماكنتش اختك وصلت للحالة دى
تحركت عينا سياف يمينا ويسارا مظهرا إحساسه بالملل من هذا الحوار مرة أخرى
_ اوووف ، مات غلط الرصاصة جت فيه ماكنش قصيدى اقتله
_ ماكنش قصدك والرصاصة جت فى قلبه؟ لما تحب تكدب اكدب على حد مش عارفك يا سياف، اتفضل قوم أمن الشركة اللى قولت لك عليها امبارح
_ ماشى انا هاخد جاسر
_ جاسر لا، انا قولت مايخرجش من القصر ولا يسيب ضل نارا انا مش مطمن عليها
تقدم سياف متضررا من التفريق بينه وبين جاسر صديق عمره والذى يصر أبيه أن يتابع نارا كظلها منذ اشهر وكأن حراسته لها ستبعد عنها جنونها الذى يلتهم حياتها بشراهة وهى مستسلمة له، لا بأس من الجنون ، هو يعشق الجنون فبين طيات الجنون تستتر كل متع الحياة وهو يحب أن يقتنص كل ما يستتر عنه .
توقف قبل أن يبلغ الباب ليعود بخطوات مندفعة نحو أبيه ليهمس بغضب
_ انا وأنت عارفين أنه لو كان عاش كان زمانه اتجوز واحدة تانية وكانت نارا هتبقى أسوأ من كده هى عايشة وهم الحب جواها هى وبس رجالتك مالهمش قلوب علشان يحبوا يا!! يا بابا
راقب أدهم مغادرة سياف هذه المرة وعينيه ترى فقط صورة نارا التى لم تعد تحمل أي من صفات اسمها بل أصبحت صورة مهزوزة مشوشة دائما وكم يخشى لحظة انهيارها.ليتها لم تكن عاقرا لما حدث كل هذا ولما وصلت لهذا الوضع.
………
عادت نارا لغرفتها لترى جاسر قرب الباب ، كم تكره تواجده بالقرب!
ليت أبيها يعفيه من حراستها ويرحمها من رؤيته فكلما نظرت إلى وجهه رأت صورة قاهر أمامها فهما كانا رفيقين مقربين من سياف منذ بداية شبابه والتحاقه بصالات التدريب حيث اجتمع ثلاثتهم على عشق الرياضة ليفتح سياف لهما بابا لدخول عالم أبيها الذى لا وجود فيه للضعفاء.
صفقت الباب بعنف لم يحرك فى جاسر سوى شفتيه لتحملا ابتسامة متهكمة قبل أن تعود عينيه لمتابعة هاتفه فى صمت .
لم تجد نارا أمامها سوى الحاسوب لتسحبه وتجلس فوق الفراش تتجول عبر مواقع التواصل لمدة ساعة واحدة فيتملك منها الملل ، وضعت الحاسوب جانبا واتجهت إلى الأدوية التي تخفيها داخل الأدراج لتساعدها على النوم الذى لا تجد مهربا من واقعها إلا إليه نهاراً بنفس القدر الذى تخشى الوقوع فيه ليلا.
بعثرت محتويات الدرج بعشوائية لتصرخ
_ جااااسر ، انت يا جاسر
فتح الباب ليقف مكانه جاسر مبتسما بطريقة تزيد من تأجج غضبها لتتابع الصراخ
_ فين الدوا المنوم؟
_ أدهم باشا أمر تقللى من المنوم، حضرتك ممكن تخرجى تروحى النادى، تعملى شوبنج ، ليدى كير، فى حاجات كتير ممكن تتعمل غير النوم يا هانم
_ انتو كمان هتحددوا لى أعمل إيه ؟ انا تعبت من الحصار ده بقا! اخرج برة
أغلق الباب بهدوء وكأنها لم تكن تصرخ عليه للتو بينما اقبلت عواطف مهرولة بفزع
_ فى إيه مالها نارا؟
_ عادى عاوزة منوم حاولى تقنعيها يا ست عواطف تخرج من الشرنقة دى ، هى حابسة نفسها وانا محبوس معاها دى حاجة تخنق
_ معلش يا ابنى انت عارف كانت بتحب المرحوم ازاى ؟
دخلت للغرفة لتتهكم ابتسامة جاسر مرة أخرى
_ تحبه!! هى العيلة دى عندهم قلب علشان يحبوا ؟
……………
دخل أدهم لمقر شركة الحراسات الخاصة به ، رغم أنه جاوز عقده السادس إلا أن لياقته البدنية العالية تمنحه هيئة أصغر بعدة أعوام ، طوى الدرجات فهو لا يستخدم المصعد أبدا ليصل لمكتبه حيث تعمل هلا العنصر النسائي الوحيد الموجود بشركته كلها .
لم تبلغ عقدها الثالث وكانت لفتنتها دور كبير في عملها بهذه الشركة ، لم يكن من الصعب عليه إخضاعها بأكثر من وسيلة لكنه لم يعد يفضل الإرغام فى هذه المرحلة العمرية، بل أصبح تواقا للاهتمام متعطشا للمحبة
ولم تكن هلا تبحث عن الكثير ، أرادت الأمان والنفوذ والمال ومعه كل هذا وأكثر
بمجرد أن رأت إنعقاد حاجبيه تبعته فورا دون أن يطلب وهذا سبب آخر يدفعه للتشبث بها فهى لديها حاسة أنثوية عالية وتشعر دائما متى يحتاج إليها.
أغلقت الباب لتسرع خطاها حتى بلغت تلامس اشعرها بمدى توتره ، توقفت خطواته رغم تيبس عضلاته وهو يغمض عينيه وكفيها الرقيقين يرتفعان لتنتفض عضلاته أسفل لمسات كفيها حتى ضغطت قرب رقبته
_ حبيبى إيه مزعله؟
_ مش عاوز اتكلم يا هلا
تعلم إجابته قبل أن تعبر شفتيه لكنها تحب إثارة حواسه لأقصى درجة بهذه اللمسات مع نثر أنفاسها المتطلبة بين أنفاسه ، ليست حمقاء لتظن أن أدهم الزناتى قد يفضى لها بمكنون قلبه، ولا تتمنى أن يصل الأمر لهذه الدرجة مطلقا فبوح رجل مثله قد تفقد معه حياتها ، تحركت لتمر من أسفل ذراعه تمنحه إحساساً أنها تشعر بالضآلة بقربه فهى تعلم ما يزيد من مشاعره ، أصبحت بين ذراعيه ليتحرك كفيها مرة أخرى نحو رأسه الشامخ بعيدا عنها فتدفعه للنظر نحوها بالأسفل ولم تفشل تلك النظرات الراجية معه مطلقاً ليذلل لها شموخ رأسه مقتربا حتى تدس أنفاسها بين أنفاسه كما يحب تماماً.
…………..
أخيرا تركتها عواطف وهى تظن أنها أفضل حالاً لكنها تحترق حرفيا بكل ما تحمله الكلمة من ألم، تتمنى أن تصرخ لعل ذلك الاحتراق يهدأ ، تتمنى أن..
نظرت لإنعكاس صورتها فى المرآة الأمر لم يعد مقتصراً على التمنى بل وصل حد الاحتياج
تحتاج أن تبوح
أن تتحدث
أن تسمح لتلك الحمم التى تكوى قلبها أن تتحرر من غليان يعذبها وحدها
لكن لمن يمكنها أن تبوح!!
سؤال إجابته أصعب من طرحه ، لا تملك صديقة واحدة يمكنها أن تثق فيها، كل البطانة التى يزرعها أبيها حوله مجرد حفنة من المنافقين لم ولن تثق فى أيهم وهذا سبب إضافى لتفضيلها العزلة.
عادت عينيها إلى الحاسوب لتتحرك قدميها كأنها مسحورة فاقدة للإرادة ، ذاك العالم الافتراضي الشاسع مؤكد يحمل العديد ممن يمكنها أن تبوح إليهم.
كتبت منشورا واحداً
ما أصعب البوح عما لا يفهمه عقلك ولا تصوغه كلماتك!
وانتظرت قليلا ، لم تنتظر تعليقات بل حركت الشاشة لتظهر لها الإعلانات وهى عازمة على الفوز بأول خيار متاح وما هي إلا دقائق وكانت أمامها صورة رجل في عقده الثالث تحمل نظراته من الغموض أكثر مما تحمل ابتسامته
( جميعنا معرضون للانكسار وجميعنا أيضاً بحاجة للدعم فاقتنص فرصتك واطلب الدعم حين تكون قادراً على ذلك ولا تترك نفسك لضياعها .
يامن الحسينى ، طبيب نفسى)
عادت عينيها تعيد القراءة وتتطلع إلى الصورة قبل أن تتخذ قرارها فهذا الحساب زائف بكل الأحوال لا خطر عليها ولا يعلم أبيها أو رجاله عنه شيئا.
_ محتاجة مساعدة
وضغطت إرسال ثم جاء وقت الانتظار .
وما أصعبه!!!
#الضحية_قسمةالشبين
رواية ما تخبأه اقدارنا الحلقه السابعه